فصل: الفصل السادس: طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة (نسخة منقحة)



.الفصل السادس: طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية:

مع بداية القرن الثالث الهجري ابتدأ المتصوفة بالتصريح بشيء من علومهم الباطنة فأنكر بعضهم على بعض، فهذا الجنيد يقول للشبلي: نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ، فرد عليه الشبلي بقوله: أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري. (التعرف على مذهب التصوف ص145).
وقول الشبلي هذا هو بدايات القول بوحدة الوجود.
ثم ابتدأت جماعة من المتصوفة تصرح بشيء من هذا العلم الباطن الذي لم يكن في حقيقته إلا القول بالحلول، الفناء في ذات الله الذي تقول به العقيدة الهندية البرهمية، والقول بوحدة الوجود، وكان هذا في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع. وهذه طائفة من هذه الأقوال التي ظهرت على أفواه القوم، وكانت تخفي تحتها العقيدة الباطنة التي زعموا أنها في منتهى الكمال والرقي في سلم التعبد الإسلامي.
أ- ذكر أبو نصر السراج الطوسي صاحب كتاب اللمع في التصوف، وهو الكتاب الذي نشره الدكتور عبدالحليم محمود وطه عبدالباقي سرور أن أبا حمزة الصوفي دخل دار الحارث المحاسبي فثغت (ثغاء الشاه: صوتها) شاة الحارث، فشهق أبو حمزة شهقة وقال: لبيك يا سيدي!! فأنكر عليه الحارث المحاسبي، فقال له أبو حمزة: إن إنكارك علي يشبه أحوال المريدين المبتدئين. (اللمع في التصوف ص495) أي الذين لم يصلوا بعد إلى التحقق من وحدة الوجود.
ب- وهذا أبو الحسين النوري يسمع كلبًا يعوي فيقول: لبيك وسعديك. (اللمع ص492).
ج- وهذا الشبلي أيضًا يقول لأحد زواره عند خروجه: أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي.
د- وكان من أجرأ هؤلاء الذين صرحوا بهذا العلم الباطن الحلاج وقبل أن أستشهد بشيء من أقواله أحب أن أقدم هذه المقدمة عنه:
نشأ الحلاج في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو من أهل بيضاء فارس، ونشأ بواسط بالعراق، وصحب الجنيد الذي يعتبر سيد الطائفة الصوفية، وأبا الحسين النوري والفوطي، وقد قتل ببغداد، وصلب يوم الثلاثاء السادس من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مئة وعموم المتصوفة راضون عنه، وإن كان قد رده بعضهم بعد قتله خوفًا على أنفسهم، ولكن ذكر الأقدمون منهم أقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلًا: قال أحد الكبراء (وهذا صنيع أبي بكر محمد الكلاباذي الذي ألف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه (التعرف على مذهب أهل التصوف) وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الأولى (اللمع) وقد استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه مصدرًا القول بقوله: قال بعضهم، أو قال القائل) (انظر مقدمة كتاب الحلاج ص11) ولم يستطيعوا التصريح باسمه، وهذا صنيع أكبر رجلين كتبا في التصوف في القرن الرابع، وهما أبو بكر محمد الكلاباذي المتوفى سنة 380هـ- وأبو نصر السراج الطوسي المتوفى سنة 378هوقد بالغت طائفة منهم بالثناء عليه حتى قال عنه محمد بن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني. (طبقات الصوفية ص308).
وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبدالغني النابلسي وكل المتصوفة منذ القرن الخامس. وأما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبدالباقي سرور كتابًا بعنوان: (الحلاج شهيد التصوف الإسلامي) وقد جعله في هذا الكتاب ثائرًا على الفساد، ومصلحًا إجتماعيًا، وداعية إسلاميًا إلى الله سبحانه وتعالى.
وبعد هذه المقدمة أعود إلى سياق البحث، وهو أن أجرأ الناس في إظهار العقيدة الباطنية للفكر الصوفي كان الحسين بن منصور الحلاج، وهذه الجرأة هي التي أدت بعد ذلك إلى القتل والصلب، ولقد كان هناك من المتصوفة من هم على عقيدته ولكنهم كتموا. يقول الشبلي:
كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمت. (الحلاج لطه عبدالباقي سرور)، ومن أبرز ما صرح به الحلاج عن المعتقد الباطن للتصوف ما أنقله بنصه عن كتاب الطواسين للحلاج (نشر لويس ماسنيون) قال الحلاج (طاسين الأزل والالتباس).
ما صحت الدعاوي لأحد إلا إبليس وأحمد، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عن عين العين، قيل لإبليس: اسجد، ولأحمد: انظر. هذا ما سجد وأحمد ما نظر، ما التفت يمينًا ولا شمالًا، {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17]. أما إبليس فإنه دعا لكنها ما رجع عن حوله، وأحمد ادعى ورجع عن حوله بقوله: (بك أحول وبك أصول) وبقوله: (يا مقلب القلوب) وقوله: (لا أحصي ثناء عليك).
وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغير عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد، ولُعن حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طلب المزيد.
فقال له: (اسجد) قال: لا غير، قال له: (وإن عليك لعنتي) قال: لا غير، مالي إلى غيرك سبيل، وإني محب ذليل، قال له: (استكبرت) قال: لو كان لي معك لحظة لكان يليق بي التكبر والتجبر، وأنا الذي عرفتك في الأزل (أنا خير منه) لأن لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك، ولي فيك إرادة، إرادتك في سابقة، إن سجدت لغيرك، فإن لم أسجد لا بد من الرجوع إلى الأصل، لأنك خلقتني من النار، والنار ترجع إلى النار، ولك التقدير والاختيار، تيقنت أن القرب والبعد واحد!! ثم يستطرد الحلاج قائلًا:
التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له: يا إبليس ما منعك عن السجود؟ قال: منعني الدعوة بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة.. انظر إلى الجبل.. فنظرت، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي، فقال: تركت الأمر؟ قال: كان ذلك ابتلاء لا أمرًا، فقال له: لا جرم قد غير صورتك. قال: يا موسى ذا وذا تلبيس، والحال لا يعول عليه فإنه يحول، لكن المعرفة صحيحة كما كانت وما تغيرت وإن الشخص قد تغير.
فقال موسى: الآن تذكره؟ فقال: يا موسى الفكرة تذكر، أنا مذكور وهو مذكور، ذكره ذكري، وذكري ذكره، وهل يكون الذاكرون إلا معًا.
خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى، لأني كنت أخدمه في القدم لحظي، والآن أخدمه لحظِّه.
ثم استطرد بعد ذلك قائلًا: وفي أقوال عزازيل (زعم المتصوفة أن إبليس كان يسمى عزازيل قبل أن يطرد من رحمة الله) أحدها أنه كان في السماء داعيًا وفي الأرض داعيًا: في السماء دعي الملائكة بربهم المحاسن، وفي الأرض دعا الإنس بربهم القبائح، لأن الأشياء تعرف بأضدادها.
وفي هذه الصياغة الطويلة لمعصية إبليس تستطيع الآن أن تلم بملامح العقيدة الصوفية الباطنية، ونستطيع أن نلخصها على النحو التالي:
1- أعبد الناس في كلام الحلاج هو إبليس والرسول صلى الله عليه وسلم وانظر كيف ينظمها عدو الله في سلك واحد، ثم يستدل على ذلك بأن إبليس أمر بالسجود فلم يسجد، والذي منعه من ذلك هو مشيئة الرب فيه وجبر الرب له. وتحققه أن لا موجود إلا هو، وأن القرب والبعد من الرب واحد، لأنه ليس على الحقيقة إلا الله، وأن إبليس قد كان داعيًا للملائكة إلى المحاسن، بإقامة الله له، وفي الأرض إنما هو داع إلى القبائح، وما هو في الحقيقة إلى قائم بمراد الرب ومشيئته.
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاه- فقد أصبح أعبد الناس عند الحلاج- وهذا من التلبيس- لأن الله أمره في السماء أن ينظر إليه، فما نظر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17]. والآية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وأن البصر ما زاغ ولا طغى، وهو ينظر إلى جبريل (فانظر كيف حول الحلاج الآية عن معناها، وأن المقصود بها هو: ما زاغ البصر أي ما نظر إلى الله، لأنه ليست هناك ذات مستقلة لله تبارك وتعالى في زعم الصوفية، بل ذاته هي ذات موجوداته. انظر هذا في كلام النابلسي الآتي).
وأما الدليل الآخر الذي ساقه الحلاج، فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقول» (هو جزء محرف من حديث رواه أبو داود في (سننه 2632) عن أنس بن مالك، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل» وصحح إسناده أستاذنا الألباني في (تخريج الكلم الطيب ص75) كما رواه ببعض اختصار الترمذي (2/278) وحسنه، وأحمد (6/16) والمعنى الذي هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم هو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يستطيع أحد أن يفعل خيرًا، أو يوفق إلى خير إلا بحول الله وقوته ولكن الحلاج قلب هذا المعنى إلى عقيدته الخبيثة في الرب جل وعلا، وجعل معناها أن الرسول قال ذلك لأنه كان متحققًا أنه هو هو، أي أنه هو الله!!
وأما موسى في نظر الحلاج فلم يكن على معرفة بحقيقة الرب، ولذلك قال له: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143].
ولقد كان من الجرأة بمكان أن يظهر الحلاج دعوته وعقيدته على هذا النحو من الصراحة والوضوح، ولقد كان يعاصره عدد كبير من المتصوفة في العراق وإيران والشام، ولكنهم قنعوا بالإشارات والرموز إلى عقيدتهم، ولم يقنع هو إلا بالتصريح، وقد سمى هو هذا المقام الذي وصل إليه مقام الفتوة، وفي ذلك يقول:
تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة (الفتوة التي عناها الحلاج هنا هي الجرأة في إظهار معتقده، وأستاذه في ذلك كما يقول إبليس وفرعون!!)، فقال إبليس: إن سجدت سقط عني اسم الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضًا: إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة!! وقال إبليس: أنا خير منه، حين لم ير غيره غيرًا، وقال فرعون: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]. حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل!! وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبدًا بالحق حقًا!! فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة أبدًا، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي، ما رجعت عن دعواي. (الطواسين ص52).
وهذا الذي وصل الحلاج إليه قد كان عقيدة لكثير من معاصريه، ولكنهم لم يستطيعوا التصريح به بنفس الوضوح والصراحة التي صرح بها الحلاج، يقول الشبلي: كنت والحسين بن منصور شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت، وقد مرّ بك هذا القول.
ولقد حاول الحلاج أن ينقل عموم المتصوفة إلى موقفه، ولذلك لم يفتأ يحركهم نحو هذه الغاية، ففي الرسالة القشيرية أنه لقي إبراهيم الخواص فقال له الحلاج: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفاوز؟ قال: بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه. فقال الحلاج: أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد!!
ويدخل الحلاج مسجد بغداد، ويرى الجنيد يتكلم على المنبر والجنيد سيد الطائفة في وقته فيقول له: يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك، وإلا فانزل، فنزل الجنيد ولم يتكلم على الناس شهرًا (أخبار الحلاج طبع ماسنيون).
وهذا القول من الحلاج للجنيد إنكار شديد عليه، وأمر له بأن يظهر ما يعتقده، وبأن يتحقق ظاهرًا فيما تحقق فيه باطنًا. وهذا معنى قوله: فإن كنت في العلم فالزم مكانك، أي إن كنت قد وصلت إلى حقيقة معتقد التصوف فالزم هذا المكان، وأظهر ما تعتقد. والحلاج هنا لم ينكر على الجنيد معصية شرعية ظاهرة، ولكنه أنكر عليه إظهاره من علوم الشريعة للعامة ما يخالف ما وصل إليه من عقيدة التصوف، ولذلك احتجب عن الناس شهرًا لا يكلمهم، ولم يستطع الجنيد أن يظهر ما أظهر الحلاج، لأنه كان يعلم نهاية الإفصاح عن حقيقة المعتقد.
ولذلك روى أبو عبدالرحمن السلمي في طبقاته في ترجمة الشبلي أن الجنيد قال للشبلي: لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت، فقال الشبلي: يا أبا القاسم لو ردّ الله أمرك إليك لاسترحت، فقال الجنيد: سيوف الشبلي تقطر دمًا!!. (الطبقات ص343).
والمعنى الذي عناه الجنيد في كلامه للشبلي أنه إذا استسلم لأمر الله، واسترسل معه كما يقولون: التصوف الاسترسال مع الله (يعني المتصوفة بهذا القول أن لا يكون لك اختيار وفعل، بل تترك مشيئة الرب تسيرك، وهذا معناه هدم الإرادة البشرية وترك الوسائل كلها) أي ترك الاختيار معه لاسترحت وهدأت.
فرد الشبلي عليه بعكس العبارة وبالمعنى نفسه!! ومعنى عبارة الشبلي أن الله قد جبر العبد وأقامه بما هو فيه، ولم يردّ أمره إليه، بل جعل أمر العبد إليه هو، ولو رد أمر العبد إلى نفسه لاستراح، واختار ما يحلو له. وكانت عبارة الشبلي للدلالة على المعنى أصرح من عبارة الجنيد، ولذلك قال الجنيد ردًا على ذلك: سيوف الشبلي تقطر دمًا. أي أنه بهذا التصريح عن معتقده سيعرض نفسه للقتل!!
ومما يدل على ذلك أن الحلاج عندما أحضر للقتل والصلب جمعت المتصوفة، وأرغموا على النيل من الحلاج وسبه، وكان ممن أحضروا لذلك الشبلي، وضعوا المنديل في رقبته، وسحبوه إلى الحسين بن منصور الحلاج ليلعنه فتأبى من ذلك، فأمره الجند بأن يذهب بنفسه أو يرسل من يلعن الحلاج، فأرسل امرأة متصوفة، وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد!! (ماسنيون. وانظر نشرات الصوفية).
وهذه الروايات كلها تدل على أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد قد تفاوتوا في إظهاره وإعلانه!!